‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات حرة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 4 سبتمبر 2011

حول السّياقات التّاريخيّة لعمليّة اقتحام الحرم المكّيّ سنة 1979 جون فرانسوا ماير ترجمة: محمّد الحاج سالم






















ترجمة الدكتور محمد الحاج سالم.





جهيمان العتيبي


نشر هذا المقال في المجلّة الإلكترونيّةReligioscope 1 في عددها الصّادر يوم 28 فيفري 2008، وهو بقلم عالم الأديان السّويسريّ

 جون فرانسوا ماير (Jean-François Mayer)، ونحن نقدّمه إلى القارئ العربيّ لما يتضّمنه من تحليل عميق للسّياقات التّاريخيّة 

التي ساهمت في إنتاج الظّاهرة الإسلامويّة الجهاديّة المعاصرة ممثّلة في تنظيم القاعدة، وإظهار تغذّي هذا التيّار من نسغ التشدّد 

السّعوديّالوهّابيّ في مهده الأوّل أي المملكة العربيّة السّعوديّة…




ما تزال حادثة اقتحام المسجد الحرام سنة 1979 من قبل مجموعة من المتمرّدين ممّن آمنوا بظهور المهديّ المنتظر، إحدى القضايا التي

 لم يكتب حولها الكثير في اللّغات الغربيّة. وقد شهدت الفترة الأخيرة بحوثا جديدة من شأنها إلقاء الضّوء على تلك الأحداث وخلفيّاتها،

 بل وبالخصوص تداعياتها.




قامت مجموعة إسلامويّة يوم 20 نوفمبر 1979 الموافق لمطلع العام الهجريّ 1400 بقيادة الرّقيب المتقاعد من الحرس الوطنيّ

السّعوديّ " جهيمان العتيبي" باحتلال الحرم المكيّ، وذلك بعد أن قدّم صهره "محمّد عبد الله القحطاني" إلى جماعة المؤمنين بوصفه

 المهديّ المنتظر الذي يأتي في نهاية الزّمان ليملأ الأرض عدلا ويقيم المجتمع الفاضل بعد دحر قوى الشرّ. ولم تتمكّن القّوات السّعوديّة

 – مدعومة في ذلك بخبرات مجموعة من قوّات التدخّل التّابعة للحرس الوطني الفرنسيّ(GIGN) – من استعادة السّيطرة على الحرم

 إلاّ يوم 4 ديسمبر. وقد قتل "المهديّ" بعد معاناة طويلة، إذ تمزّق بعض جسمه أثناء محاولته رمي قنبلة باتّجاه المهاجمين الذين سبق

 أن رموها عليه إذ كان متأكّدا بوصفه "المهديّ" بأنّها لن تتسبّب في موته، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع إيمان بعض المنتمين إلى حركته ولفترة

 طويلة بعد مقتله بأنّه لا يزال على قيد الحياة. أمّا العتيبي، فقد ضربت رقبته ورقاب 62 من أتباعه ممّن وقعوا في الأسر يوم

9 جانفي 1980 في عدّة مدن سعوديّة، وكانوا 39 سعوديّا و10 مصريّين و5 يمنيّين وبعض الكويتيّين والعراقيّين والسّودانيّين، بينما

 تمّ إعدام آخرين بصفة سريّة في الأشهر التّالية. أمّا من لم يبلغ منهم بعد سنّ الرّشد، ولم يشاركوا في القتال، فقد قضّوا سنوات عديدة

في السّجن. وقد قتل أحد السّود الأمريكيّين من أتباع العتيبي خلال المعارك، وأطلق سراح آخر بعد سنوات من السّجن ليعاد مؤخّرا

 إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فيما تواصل وجود الفرع الكويتيّ لحركة العتيبي إلى نهاية الثمانينات.


لكن لماذا نعود اليوم إلى هذه القصّة؟ أوّلا، بسبب صدور كتاب ومقال في المدّة الأخيرة عن هذا الموضوع مكّنا من التعرّف بأكثر دقّة

على ما وقع خلال تلك الأحداث التي لا توجد سوى قلّة من البحوث الغربيّة بشأنها. وثانيا، لأنّ ما حصل في مكّة عام 1979 لم يكن

 مجرّد حادث منعزل وعابر، بل هو منخرط ضمن التطوّرات الأوسع لظهور الجهاديّة المعاصرة، ممّا يجعله جزءا من الأحجية التي

 يحاول الخبراء جاهدين فهم ديناميّاتها.


وفي هذا الإطار يأتي كتاب "حصار مكّة" The Siege of Mecca للصّحفيّ ياروسلاف تروفيموف Yaroslav Trofimov مراسل

 صحيفة "وول ستريت جورنال" Wall Street Journal والمختصّ في تغطية أحداث العالم العربيّ منذ سنوات. وقد جاءت روايته

 للأحداث على نحو فعّال وبأسلوب صحفيّ تمكّن من تقديم وصف تفصيليّ لأحداث الحرم المكيّ يوما بيوم، محلّلا ظروف معايشتها

 من قبل السّلطات السّعوديّة خلال محاولة استعادة سيطرتها على الحرم، وظروف معايشتها من قبل الدّبلوماسيّين الأمريكان ومحاولتهم

 جمع أكثر ما يمكن من المعلومات بشأنها. وقد أدّى اطّلاع المؤلّف على بعض الوثائق الأمريكيّة التي رفع عنها الحظر، واستماعه

 إلى شهود عيان بمن فيهم بعض أعضاء جماعة العتيبي، إلى الحصول على معلومات جديدة أدّى التّدقيق فيها والمقارنة بينها إلى

 تكوين فكرة أكثر دقّة عمّا حدث بالفعل.


أما بخصوص المقال الذي نشر في المجلّة الدّوليّة لدراسات الشّرق الأوسط (International Journal of Middle East Studies)،

 فهو بقلم الباحثين الشّابيّن النّرويجيّ توماس هيغهامر (Thomas Hegghammer) والفرنسيّ ستيفان لاكروا (Stéphane Lacroix)،

وهما يقومان منذ مدّة بإمتاعنا ببحوث متميّزة حول جوانب مختلفة من الإسلام المعاصر. ويتناول مقالهما بالخصوص أصول حركة

 العتيبي وتأويلاتها وميراثها، مستندين في ذلك إلى العمل الميدانيّ الذي قاما به في المملكة العربيّة السّعوديّة والكويت.


لن نعرض هنا تاريخ الحصار، فعلى من يريد معرفة المزيد حوله بما في ذلك المشاكل التي واجهت السّلطات السّعوديّة والأخطاء التي

 ارتكبتها، العودة إلى كتاب تروفيموف. لكن ذلك لا يمنع الإشارة إلى أنّ الأمر جدّ قبل ولادة شبكة الإنترنت والهاتف الخليويّ،

 وبالتّالي فثمّة فرق كبير بين ما مثّله في حينه وما كان يمكن أن يمثّله اليوم. من ذلك أنّه أمكن للسّلطات السّعوديّة وقتها التّعتيم على

 الوقائع في خطوة أولى، وأشاعت جملة من التّأويلات (بما في ذلك إمكانيّة وقوف إيران وراء العمليّة، والحال أنّ حركة العتيبي كانت

معادية تماما للشّيعة). ونريد هنا بالخصوص، التّركيز على بعض القضايا الأوسع نطاقا، وعلى ما يمكن أن يفيدنا به هذا الحدث بشأن

 التطوّر اللاّحق للتّيارات الإسلامويّة.


ولعلّ أوّل تلك الاعتبارات أنّ مجموعة العتيبي لم تنشأ من عدم، فزعيمها نفسه ينتمي إلى إحدى أشدّ القبائل تعلّقا بالوهّابيّة، وهي

 من القبائل التي قامت بمساعدة الملك عبد العزيز (1876-1953) في الاستيلاء على السّلطة، قبل أن تتصادم معه في أواخر العقد

 الثاني

 من القرن العشرين حين أراد إيقاف الحروب في البلد والجنوح إلى السّلم مع جيرانه وسمح بإدخال بعض الابتكارات الحديثة مثل

 الهاتف والبرق والإذاعة والسيّارات إلى المملكة. فبعد هزيمتها سنة 1929 في مواجهة القوّات الموالية للأسرة السّعوديّة، اضطرّت

 تلك القبائل إلى موالاة السّلطة، إلاّ أنّها وجدت نفسها بعيدة عن حقول النّفط ومحرومة من الازدهار الذي تنعم به مناطق أخرى. وبذلك

 لم يكن أمامأبنائها من وسيلة للترقّي الاجتماعيّ إلاّ الانخراط في صفوف جهاز الحرس الوطنيّ السّعوديّ، وهو جهاز يقوم على 

عقيدة إسلاميّة

 أرثوذوكسيّة صارمة، بل هو أنشئ أصلا لموازنة جيش غير متجانس قد تستهويه الأفكار الاشتراكيّة؛ ومن هنا اشتراك بعض

 منتسبيه في التمرّد المسلّح، واستغلال معارفهم العسكريّة في تدريب رفاقهم طوال الأشهر التي سبقت الحدث.


كما تثير حادثة سنة 1979 أيضا مسألة تأثير الأفكار المهدويّة في العالم السنّيّ حيث تتّخذ شكلا شديد الاختلاف عن المقاربة الشّيعيّة،

 إلاّ أنّها لا تقلّ عنها من حيث تحفيز الآمال. ورغم أنّ دور التّطلّعات المهدويّة داخل مختلف تيّارات الإسلامويّة يبقى محلّ نقاش،

فإنّه لا مجال للشكّ في دورها في حالة متمرّدي مكّة، فقد كان العتيبي يربط بين ظهور المهديّ ومطلع القرن الهجريّ الجديد ويرى

 في الاستيلاء على الحرم المكّي تحقيقا للنّبوءات المتعلّقة بظهور المهديّ. كما يبدو أيضا أنّ حملة القمع التي باشرتها السّلطات السعوديّة

سنة 1978 كان لها دور في تعزيز الإيمان بالمهديّ، إذ فهم المتمرّدون استيلاءهم على مكّة بوصفه تحقيقا لمشهد (سيناريو) مهدويّ،

 وتماثل كلّ من التّاريخ والنّبوءة في أذهانهم.


ووفقا لهيغهامر ولاكروا، فإنّه لا مجال للشكّ في الاعتقادات المهدويّة للعتيبي، وذلك رغم عدم تأكّدهما تماما من مشاركة رفاقه له في

معتقداته المسيحانيّة، إذ يعتبران حصر مجموعة العتيبي في مجرّد "نحلة مسيحانيّة" من شأنه تجاهل البعد السّياسيّ لخطابها. ومن هنا،

 يرى الكاتبان وجوب النّظر إلى الجماعة "بوصفها في آن مسيحانيّة وسياسيّة" (هيغهامر ولاكروا، ص 114)، وهو ما نرى أنّه أمر

 مألوف في الحركات المسيحانيّة..


ومن الجدير بالذّكر هنا أنّ كثيرا من مؤيّدي العتيبي كانت لهم رؤى تؤكّد أنّ "محمّد عبد الله القحطانيّ" هو المهديّ المنتظر وأنّهم أقسموا

الولاء له عند الكعبة (تروفيموف، صص 50-51). وقد أشارت بعض البحوث إلى أهميّة الرّؤى ليس في الإسلام عموما فحسب، بل وبالخصوص عند الجماعات الجهاديّة [2] وثمّة عنصر آخر هامّ قد يساعد على فهم ظهور العتيبي وحركته، وهو الدّور الذي اضطلع

به الفقهاء السّعوديّون من ذوي النّفوذ الدّينيّ كعبد العزيز بن باز (1909-1999)، فقد كانوا ينتقدون التّأثيرات الخارجيّة على المملكة

 وبعض

 المظاهر المجدّدة والتّحرّريّة فيها، لكنّهم كانوا في ذات الوقت مستعدّين للدّفاع عن النّظام الملكيّ لعدّة أسباب من ضمنها المكاسب التي

كانوا يحقّقونها توطيدا لمكانتهم – في مواجهة نظام غير مستعدّ لتقبّل النّقد – وكذلك الخوف من اختفاء النّظام السّعوديّ وحلول تيّارات

 اشتراكيّة محلّه. وفيما يخصّ العتيبي، فقد تابع منطق قناعاته إلى منتهاه، وتوصّل إلى الحكم بعدم شرعيّة حكّام السّعوديّة وجميع قادة

البلدان الإسلاميّة الأخرى، وهو ما تولّد عنه الحكم أيضا بعدم شرعيّة خدمة تلك الدول (تروفيموف، ص33).


ولقد بيّن هيغهامر ولاكروا كيف شهدت السّنوات بين 1950 و1960 تطوّر نوعين من الإسلامويّة في المملكة العربيّة السّعوديّة:

إسلامويّة "براغماتيّة سياسيّة نخبويّة" ولدت في الجامعات وتأثّرت بفكر الإخوان المسلمين، وإسلامويّة "انعزاليّة تقويّة" مرتبطة

 بأوساط اجتماعيّة متدنيّة على نمط "السلفيّين الجدد" متشدّدة حيال تقديم أيّ تنازلات، وقد كانت مجموعة العتيبي منتمية إلى التيّار

 الثّاني. ويشدّد لاكروا وهيغهامر على عدم الخلط بين هذا التيّار والتيّار الجهاديّ الذي يمثّله أسامة بن لادن، إذ يتعلّق الأمر بخصوص

 جماعة العتيبيبتيّار يحاول التّوفيق بين شواغل الممارسات الطّقسيّة وازدراء السّياسة، مع رفض للدّولة ومؤسّساتها (ص104 ).


لقد انتمى العتيبي لفترة طويلة إلى الأوساط التي كانت تكنّ احتراما عميقا لابن باز. ووفقا لتروفيموف، فقد كانت رسالة المتمرّدين

 متوافقة في جوهرها مع رسالة رجال الدّين الأكثر نفوذا في المملكة العربيّة السّعوديّة، إذ رغم ابتعاد العتيبي منذ سنة 1977 عن الولاء

 لعلماء الدّين في المملكة بسبب ما اعتبره خضوعا من قبلهم للسّلطة، فإنّ ابن باز نفسه تدخّل سنة 1978 لإطلاق سراح بعض أتباع

 العتيبي من سجون السّلطات التي هزّتها أنشطة تلك الشّبكة السرّية المعادية لآل سعود، إذ رأى ابن باز فيهم رجالا حسني النيّة ساعين

لإقامة دين الله إلاّ أنّهم لم يحسنوا التّعبير عن ذلك (تروفيموف، صص 41-42). غير أنّ استعراض الأمور بنظرة استرجاعيّة من

 شأنه توضيح أنّ جماعة العتيبي رغم أخذها ببعض طروحات السّلطات الدّينيّة الرّسميّة إلاّ أنّها عارضتها بحجّة توافقها الكبير مع

السّلطة السّياسيّة،وهو ما يمثّل عاملا حاسما في فهم انبثاق الإسلامويّة الرّاديكاليّة.


لقد كان اقتحام المسجد الحرام من النّاحية الرّمزيّة عملا ذا أثر حاسم غير مسبوق، لكنّه لم يكن الأمثل لضمان اكتساب الدّعم عبر

 استخدام القوّة في مكان تحتّم قواعد الإسلام أن يكون آمنا. وحسب تريفيموف، فقد أبلغ الملك خالد فيما بعد بعض زوّاره الأجانب

أنّه "لو تمّت مهاجمة

 قصري، لأصابوا نجاحا أكبر" (ص 116). وبالفعل، فقد شهدت نفس الفترة اضطرابات عنيفة في صفوف السكّان الشّيعة للمناطق

النّفطيّة السّعوديّة بتأثير من الثّورة التي قامت حينها في إيران إلى جانب الاحتقار والضّغينة التي يكنّها لهم الوهّابيّون، إلاّ أنّ النّظام

 السّعوديّ تمكّن من تجاوز المحنة.


وتعزيزا لموقفه بعد هذا الأزمة، قام النّظام السّعوديّ بنفس ما قامت به أنظمة أخرى في العالم الإسلاميّ، ألا وهو العمل على تفادي

 الانتقادات من خلال إيلاء أهميّة أكبر للدّين بهدف حيازة مزيد من الشرعيّة. وقد تكرّس هذا التوجّه من خلال التّأييد الذي حصل عليه

النّظام السّعوديّ من المجلس الأعلى للعلماء بقيادة ابن باز حين أدان حركة التمرّد، وذلك مقابل سلسلة من التّدابير المضادّة للتحرّر الذي

 بدأت المملكة تشهد بوادره. وقد أدّت الأحداث،وكذلك الاتّفاق المبرم بين الأسرة المالكة السّعوديّة والزّعماء الدّينيّين، إلى زيادة الدّعم

الماليّ المخصّص لرجال الدّين وللتّنظيمات النّاشرة للوهابيّة. ووفقا لتحليل تروفيموف (الفصل 30)، يظهر استعراض الأحداث كيف

 غذّت هذه السّياسة الأفكار التي أنتجت العتيبي وأتباعه، وهي نفس الأفكار التي ستلهم القاعدة في وقت لاحق. ورغم أنّ الأمر يبدو أكثر

 تعقيدا ممّا نظنّ، فإنّ مثل هذه الملاحظة تستحقّ الاهتمام إذ تذكّرنا بأهميّة الأفكار ومدى تأثيرها. وعلاوة عن ذلك، فإنّ واقعة انضمام

 بعض أعضاء حركة العتيبي لاحقا لتنظيم القاعدة أمر صحيح من النّاحية التّاريخيّة، وهو ما لا يؤشّر حتما على أبوّة حركة العتيبي

لتنظيم القاعدة، لكنّه يدلّ على تجانسهما وعلى وجود بيئة إيديولوجيّة هي التي سمحت لاحقا بتلاقي الحركتين..


ولمزيد فهم هذه الأفكار، ليس على القرّاء النّاطقين بغير العربيّة إلاّ أن يأملوا في ترجمة الرّسائل السّبع (إلى جانب أربع رسائل أخرى)

 التي نشرت سنة 1970 في كتاب من 170 صفحة من العربيّة إلى إحدى اللّغات الغربيّة، ومن ضمنها بالطّبع أربع رسائل بقلم العتيبي

 نفسه. وقد تمّ نشر هذا الكتاب في الكويت، لا من قبل إسلامويّين، بل من قبل ناشر ذي توجّه بعثيّ موال لصدّام حسين قام بذلك بهدف

 الإسهام في إضعاف النّظام السّعوديّ (اكتفى لاكروا وهيغهامر من جهتهما بالإشارة إلى انتماء النّاشر إلى اليسار ومساندته حركات

التمرّد الشّعبيّ). وقد خصّص العتيبي إحدى رسائله بالكامل لمسألة المهديّ المنتظر، وهي من ضمن الرّسائل التي يشير تروفيموف

 إلىإعادة طبعها في مصر مرّات متتالية (ص 247).


لقد كان محمّد الإسلامبولي شقيق قاتل الرّئيس السّادات والعضو الحاليّ في شبكة القاعدة، موجودا في مكّة أثناء وقوع الأحداث،

 وقد حمل معه إلى مصر كتاب العتيبي الذي وزّعت نسخ منه على الحجّاج خلال السّاعات الأولى من الحصار بعد أن تقطّعت بهم

 السّبل داخل الحرم المكّي. وبالإضافة إلى ذلك، وكما رأينا، فقد شارك كثير من المصريّين في العمليّة بسبب انتشار رسائل العتيبي

 السّبع قبل عمليّة اقتحام الحرم في الأوساط الإسلامويّة المصريّة، وخاصة بين أنصار الجماعة الإسلاميّة (تروفيموف، ص 44).


أمّا بالنّسبة لأبي محمّد المقدسيّ (من مواليد سنة 1959)، أحد منظريّ التيّار الجهاديّ، فإنّ عدم موافقته على الإدّعاءات المهدويّة لحركة

 العتيبي ورميها بغياب رؤية سياسيّة لديها، لا يقلّل من ترحيبه بما قامت به باعتباره محاولة لإيقاظ المسلمين (تروفيموف، ص249).

فقد كان المقدسيّ، وهو من أصل فلسطينيّ ونشأ في الكويت، على اتّصال مع فرع جماعة العتيبي في الكويت منذ سنة 1980، أي قبل

 اجتماعه بالمتعاطفين مع الحركة في المملكة العربيّة السّعوديّة ذاتها حين توجّه إلى المدينة المنوّرة في عام 1981 أو 1982 بغرض

 استكمال تعليمه (هيغهامر ولاكروا، ص 115). ووفقا لتحليل هيغهامر ولاكروا، فقد كان المقدسيّ شديد التأثّر بأفكار العتيبي، إلاّ أنّه

 كان أكثر منه تطرّفا بخصوص بعض النّقاط، وأهمّها أنّ العتيبي كان ينتقد شرعيّة الحكومة السّعوديّة بشدّة دون أن يكفّرها، وهو ما

 كان محلّ خلاف بين المقدسيّ منذ سنة 1980 وبين من عاش من أنصار العتيبي بعد الأحداث (ص 116).


وقد شهدت بداية التّسعينات محاولة بعض الشّباب السّعوديّ إحياء تراث العتيبي، إلاّ أنّ الشّقاق دبّ في صفوفهم وانشقّوا إلى عدّة فصائل أكثر تشدّدا في مواقفها من حركة العتيبي ذاتها، وهو ما يبرز بالخصوص في مسألة تكفير العائلة المالكة. وقد تورّط بعض قدامى المنتمين

 إلى هذه الفصائل في الهجمات التي شهدتها الرّياض سنة 1995، وهو ما أدّى إلى إيقاف جميع المرتبطين بـ"انبعاث" حركة العتيبي،

 لتزداد بعدمرحلة السّجن مواقف بعضهم تشدّدا، فيما غدت مواقف بعضهم الآخر أكثر تحرّرا(هيغهامر ولاكروا، صص 116-117).


وهكذا بدا الأمر أشبه بحكاية تروى ودون تداعيات تذكر، وذلك رغم الجهود التي بذلتها السّلطات السّعوديّة – التي أحرجتها الأحداث

 أيّما إحراج – لتفادي القيام بمزيد من البحث حول الموضوع. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تمّت الأحداث في سياق منعطف تاريخيّ حاسم

 إذ شهد نفس

العام 1979 تفجّر الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة مع ما صاحبها من تداعيات في كافّة أرجاء العالم الإسلاميّ عموما وداخل العالم الشّيعيّ

 على وجه الخصوص، إضافة بالطّبع إلى التدخّل السّوفياتيّ في أفغانستان في شهر كانون الأوّل/ديسمبر من نفس السّنة. وهكذا كانت

 مسارات التطوّر التي ندرك اليوم تداعياتها بصدد التّقاطع في نفس اللّحظة ودون أيّ وعي من قبل الفاعلين فيها بذلك : هذه هي إحدى

مزايا كتاب تروفيموف حين ربط بين تلك الوقائع في سياق تزامنيّ، ومقال هيغهامر ولاكروا حين وضعا الأمر على "الخريطة

الإيديولوجيّة" للإسلامويّة السّعوديّة. ولعلّ ممّا يثير الدّهشة أنّ إخلاف المهديّ موعد ظهوره المنتظر لم يمنع أن تغدو بداية القرن

الخامس عشر للهجرة موعدا لتحوّلات مصيريّة في تاريخ الإسلام…


العنوان الأصليّ للمقال: Arabie saoudite: retour sur l’occupation de la mosquée de La Mecque en 1979


religioscope .1 : مجلّة إلكترونيّة فرنسيّة تنشر معلومات وتحاليل حول الأديان باللّغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة منذ جانفي 2002 تحت

 إشراف مؤرّخ الأديان السّويسري جون فرانسوا ماير على الموقع: www.religioscope.org


.2 راجع: إدغار (إيان ر.): دور الرّؤى اللّيليّة الإلهاميّة في تحفيز الجهاد وتبريره، نوفا ريليجيو، المجلّد 11، العدد 2، تشرين

 الثاني/نوفمبر 2007 ، صص 59-76.


Iain R. Edgar: The Inspirational Night Dream in the Motivation and Justification for Jihad, Nova Religio, vol. 11, n° 2, nov. 2007, pp. 59-76.


المصادر:


Hegghammer (Thomas) & Lacroix (Stéphane) : Rejectionist Islamism in Saudi Arabia: The Story of Juhayman al-’Utaybi Revisited, International Journal of Middle East Studies, vol. 39, 2007, pp. 103-122.


Al-Rasheed (Madawi) : Deux prédécesseurs saoudiens de Ben Laden Critique internationale, N° 17, octobre 2002, pp. 35-43











0

الأربعاء، 31 أغسطس 2011

الفلامنكو: فنُ يوحد الأقليات في وجه الإبادة الثقافية

























يمثّل الفلامنكو نمطا فريدا وفذّا من الموسيقى هو في الحقيقة مزيج من الألحان والشّعر والرّقص، وهو يتميّز بإيقاعات جذّابة استمالت قلوب الملايين وجعلته يكتسب عددا هائلا من المحبّين في جلّ أرجاء المعمورة، وهذا ما جعله يغدو المنتج الثّقافي الفنّي الأكثر حضورا وتأثيرا في المجال الحضاري الإسباني الرّاهن.


ويتنزّل هذا المقال في إطار مواصلة فتح النّوافذ على الموسيقى الغربيّة في نطاق اهتمامنا بما مسّها من تأثيرات عربيّة ساهمت بقدر كبير وجليّ في نشأتها. ونظرا لقلّة الاهتمام الذي تلاقيه مثل هذه القضايا من قبل الباحثين العرب رغم أهميّة تناولها وتحليلها في إيجاد مبرّرات حضاريّة للشّباب العرب في اهتمامهم "المبالغ فيه وغير المبرّر" بتلك الأنماط "الغربيّة" من الفنون - حسب البعض ممّن يدّعي الحفاظ على "نقاوة الهويّة العربيّة"-، فإنّنا سنحاول تقديم فكرة عامّة عن الفلامنكو كأحد أبرز الأنماط الفنيّة الغربيّة اليوم، مع التّركيز أساسا على التّأثيرات العربيّة التي مسّت طرائق عزفه وغنائه ورقصه.


1- العناصر والأنماط الأساسيّة في موسيقى الفلامنكو:


الفلامنكو تراث فنّي وثقافيّ إسباني تعود أصوله إلى هضاب منطقة الأندلس. ورغم غياب تاريخ دقيق لزمن ظهوره، إلاّ أنّ معظم مؤرّخي الموسيقى يرجعون ذلك إلى القرن الرّابع عشر على وجه التّقريب، ويتّفقون على أنّ بروزه في صيغته المعروفة اليوم لم تتمّ إلاّ خلال القرن الثّامن عشر. وقد اعتبر الفلامنكو منذ نشأته فنّ الفقراء والمهمومين والمتمرّدين داخل الأقليّات المضطهدة في إسبانيا؛ من الموريسكيّين (بقايا العرب المسلمين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس)، والغجر واليهود، على يد محاكم التّفتيش التي أقامها الملك فرديناند لإجبارهم على اعتناق المسيحيّة الكاثوليكيّة، ممّا دفع هذه الأقلّيات إمّا إلى مغادرة الوطن أو التخفّي في الجبال والمناطق الوعرة التي شهدت ولادة هذا الفنّ تعبيرا عن مآسيها، ليتمّ تناقله من جيل إلى جيل عبر المأثور الشّفوي.


والفلامنكو فنّ متعدد المظاهر، فهو يتضمّن الرّقص والعزف والغناء، ويعتمد مزيجا من الألحان المستقاة أساسا من الموسيقى العربيّة وأساليب الغناء الخاصّة بطائفة اليهود الأسبان وموسيقى الغجر ذات الملامح الهنديّة الواضحة. ومن هنا، تعدّدت أنماط أغاني الفلامنكو مثل "السوليرياس" (Soleares) و"الأليغرياس" (Alegrias)… وهي تتميّز عن بعضها البعض باختلاف موازينها وخصائصها الهارمونيّة.


وتعتمد أغاني الفلامنكو قصائد مغنّاة يطلق عليها اسم "كانتي" (Cante)، وتتفرّع إلى عدّة أنواع تختلف بحسب اختلاف تعبيراتها. ومن ذلك مثلا قصائد "الكانتي خوندو" (Cante Jondo) (بمعنى الغناء العميق) وهي أولى وأقدم قصائد الفلامنكو، وتتمحور مواضيعها عامّة حول التّعبير عن معاناة ألم الحبّ وما يسبّبه الموت وفراق الأحبّة[1]. أمّا قصائد "الكانتي انترمديو" (Cante Intermedio)، فهي شديدة القرب في مواضيعها من مواضيع قصائد "الكانتي جوندو" لكن بنظرة أكثر تفاؤلا، إذ غالبا ما تكون نهايات قصص الحبّ فيها سعيدة. ويعتبر هذا النّمط من القصائد الغنائيّة في الفلامنكو الأكثر تأثّرا بالشّعر العربيّ نظرا لأصولها الموريسكيّة الجليّة، حيث يعتقد الكثير من الدّارسين أنّ هذا النّمط من الكانتي قد برز في الأندلس. كما نجد أيضا قصائد "الكانتي شيكو" (Cante Chico) التي يتخلّلها جوّ من الفرح والسّعادة أكثر من نظيراتها الأخرى، إذ غالبا ما تتمحور مواضيعها حول الفرح والفخر والتّعبير عن حبّ الحياة [2]. أمّا ما يسمى "لافوز أفيلا" (La Voz Afilla)، فهو نمط مميّز من القصائد المغنّاة في الفلامنكو منسوب إلى الغجر ينشد بصوت حزين ومتقطّع، ويشاع أنّه لا يمكن لأحد أن يتقن هذا الأسلوب في الإنشاد ما لم يكن غجريّا [3].


أمّا العزف في موسيقى الفلامنكو، فيرتكز على الارتجال، وتسمّى البنية الهارمونيّة والإيقاعيّة لأغاني الفلامنكو "كومباس" (Compas) [4]. وتعتبر الغيتار الآلة الموسيقيّة الأساسيّة المرافقة لمغنّي الفلامنكو، وقد أدخلها العرب إلى إسبانيا في القرن التّاسع الميلادي تحت مسمّى "كيثارة"، قبل أن نطرأ عليها بعض التّحويرات الأوروبيّة التي جعلتها اليوم في صيغتها العصريّة التي نعرفها بها. ومع أنّنا لا نعرف تاريخا دقيقا لتحديد بداية توظيف هذه الآلة الموسيقيّة في عزف الفلامنكو، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعها من لعب دور هامّ في تأطير الجوّ العامّ للفلامنكو، إذ تتمثّل إحدى الوظائف الأساسيّة لعازف الغيتار في نقل أحاسيس ألم الوحدة وحرقة الفراق أو بسعادة اللّقاء والفرح بالحياة إلى المستمع. وتحمل آلة الغيتار التي تصمّم خصّيصا لعزف الفلامنكو ملامح تميّزها عن آلة الغيتار الكلاسيكيّة، وهو ما حلّله "بول ماغنوسن" (Paul Magnussen) في مقال بعنوان "Rincon flamenco" نشرته مجلّة Classical Guitare سنة 1997 [5]. فالنّوع الأوّل المخصّص لعزف الفلامنكو حصرا، يصنع من خشب شجرة السّرو ويتميّز بخفّة الوزن وبصوت أكثر إيقاعيّة، إضافة إلى غلاف خفيف يحمي لوح الآلة من نقر الأصابع يسمى بالاسبانيّة "قولبيدورس" (Golpeadores)، في حين يصنع الغيتار الكلاسيكيّ من خشب الورد ويكون وزنه أكثر ثقلا. هذا بالإضافة إلى العديد من الاختلافات في طريقة العزف وتقنياته. كما توظّف آلات موسيقيّة أخرى في عزف الفلامنكو مثل الكمنجة والفلوت والتيمبال (Timbales).


ويعتبر رقص الفلامنكو أحد أشهر أنماط الرّقص في العالم، وهو يتفرّع إلى عدّة أنواع لعلّ أشهرها رقصة "الخويرغا" (Juerga) ورقصة "التّانغو" (Tango) … وتِؤدّى رقصات الفلامنكو بصفة فرديّة، وقد جرت العادة بأن يكون المؤدّي امرأة. ويصف "جورج بورو" (George Borrow) في كتابه "الغجر" (The Zincali) أداء راقصة فلامنكو أثناء أحد العروض التي شاهدها: "تدوس الأرض بقدميها بقوّة وهي تضع يديها على وركيها، تتحرّك بقوّة تارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار، تتقدّم وتتراجع في اتّجاه مائل. أصبحت نظراتها الآن أشدّ حدّة… تبدأ بالتّصفيق بيديها… تنطق بكلمات غير مفهومة بلهجة غريبة وغير مألوفة… من ثمّ تثب، وتقع على الأرض لترتدّ ثانية بمستوى ياردة فوقها…" [6]. أمّا حديثا، فقد أصبح من المألوف أن تؤدّى بعض رقصات الفلامنكو بصفة ثنائيّة، حيث يكون هناك نوع من التّواصل بالأعين بين الرّاقصين إضافة إلى العواطف الجيّاشة المشتعلة بينهما، والتي يلاحظها المتفرّج أثناء قطعهما للركح جيئة وذهابا، وأحدهما يقابل الآخر، ومن ثمّ يرفع الرّاقص يديه عاليا فتجري شريكته نحوه وترتمي في أحضانه، لينحني هو بدوره إلى الوراء بما يقارب 45 درجة وهو يحضنها بين يديه. ويمكن أن نشاهد مثل هذه الرّقصة في فلم "كارمن" (Carmen) الذي قام ببطولته الرّاقص المشهور "أنتونيو قادس" (Antonio Gades) والرّاقصة "ماريا ديل صول" (Maria Del Sol). كما يتخلّل رقص الفلامنكو أيضا التّصفيق بالأيدي والنّقر بالقدمين على الأرض، وهو ما يوظّف عادة لضبط الإيقاع.


وقد انتشر في خمسينات القرن الماضي ما يسمّى "أوبرا الفلامنكو"، وهي عروض مسرحيّة تشبه الأوبرا الكلاسيكيّة إلى حدّ ما، يقدّم فيها رقص وغناء الفلامنكو. وعلى حدّ تحليل "إيما مارتينز" (Emma Martinez) لهذه الظّاهرة في كتابها "كلّ ما يراد أن يعرف عن الفلامنكو" (Flamenco…All Wanted To Now) [7]، فإنّ الأمر يتعلّق بخطوة اتّخذها الدّيكتاتور المطاح به "فرانكو (Franco) من أجل الارتفاع بالفلامنكو إلى درجة تجعله فنّا قوميّا إسبانيّا. كما تصف الكاتبة أيضا في نفس العمل، ما يسميّى "التابلواس" (Tabloas)، وهي عروض تقام في أماكن عامّة مثل المقاهي والكباريهات والنّوادي اللّيليّة، وهو ما تعتبره الكاتبة امتدادا وتطوّرا لما كان يعرف باسم "مقاهي الكانتانتي" (Cafés Cantante) التي انتشرت خلال القرنين 18 و 19، وهي أوّل الأماكن التي أقيمت فيها عروض رسميّة للفلامنكو والتي شهدت الانطلاقة الأولى لكثير من فنّاني الفلامنكو المشهورين مثل "مانولو كراكول" (Manolo Cracol) و "إنريكي مورينتي" (Enrique Morente)….


وتطوّرت موسيقى الفلامنكو اليوم على يد عدّة فنّانين عالميّين مثل: "باكو دي لوثيا" (Paco De Lucia) و "آلدي ميولا" (Aldi Meola) وفرقة "جيبسي كينغس" (Gypsy Kings)….. الذين تمكّنوا من مزج الفلامنكو مع موسيقى الجاز وموسيقى البوب (Pop Music) ، وإضافة عناصر جديدة على طاقم العزف مثل آلة البيانو..


2- أصل كلمة فلامنكو:


يوجد الكثير من الاختلاف والتّضارب بين الباحثين في موسيقى الفلامنكو حول أصل تسميتها. حيث أرجعها البعض مثل المفكّر والكاتب "بلاس إنفانتي" (Blas Infante) إلى أصول عربيّة مفترضا أنّها مركّبة من الكلمتين العربيّتين "فلاّح" و"منغو"، مشيرا إلى أنّها كانت تستخدم للإشارة إلى الفلاّحين الموريسكيّين (مسلمو الأندلس) الذين طردهم الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا من أراضيهم لرفضهم دخول المسيحيّة الكاثوليكيّة، ففرّوا نحو الجبال واندمجوا مع الغجر لينشؤوا معا فنّ الفلامنكو كنوع من التّعبير عن الظّلم والقهر في مواجهة هذه الإبادة الثّقافيّة. لكن، يوجد أيضا من ينفي أيّة علاقة لكلمة فلامنكو باللّغة العربيّة، حيث يورد "فيليكس غراندي" (Felix Grande) في كتابه "ذكرى الفلامنكو" (Memoria del flamenco)[8]حديثا أجراه مع شاعر عربي صديق له يشير فيه إلى عجزهما عن إيجاد أيّ رابط بين كلمة فلامنكو ولفظي "فلاّح" و"منغو"، ذلك أنّ اللّفظ الثّاني ببساطة لا وجود له في اللّغة العربيّة، إضافة إلى أنّ كلمة فلامنكو لم تظهر إلاّ في بدايات القرن الثامن عشر، أي بعد خروج العرب من الأندلس بأكثر من قرنين تقريبا.


ويطرح "فيليكس غراندي" في نفس الكتاب تصوّره الخاص لأصل هذه الكلمة، ويتقدّم بفرضيّة مفادها أنّ اللّفظ ربّما كان ذا أصول غجريّة، ومن ثمّة يشير إلى أنّ الغجر تعوّدوا حمل سكّين يربطونها بأحزمتهم تسمى "فليمي"’ (Fleme)، وهو نفس التّقليد ذي البعد الدّينيّ الذي نجده أيضا لدى بعض القبائل في الهند، أي البلد الذي هاجر منه الغجر نحو أوروبا، وهو ما يجعله بالتّالي متداخلا مع معتقدات الشّعبين الدّينية. وقد ساندت الباحثة "إيما مارتينز" [9] هذا التصوّر، حيث أشارت إلى وجود عادة عند مربّي الخيول الغجر تقتضي منهم حمل مثل هذه السّكين، ذاهبة إلى أنّ تسمية "فليمي" التي أطلقت عليها تعود في الحقيقة إلى كلمة "فليكمي" (Flecme) الموجودة في اللّغة "البروفانسيّة" (Provance) التي لا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا في منطقة كاتالونيا جنوب فرنسا، وهي المنطقة التي سبق أن عبرها الغجر في رحلتهم من الهند نحو إسبانيا. أمّا كلمة "انكو" (Enco)، فتشير نفس الباحثة أنّها مجرّد زائدة لغويّة توظّف في اللّهجة العاميّة للإشارة إلى أنّ تلك الجماعة قدمت من مكان ما، أو أنّ فلانا ينتمي إلى منطقة كذا، وأنّها ربّما أضيفت في بعض الأحيان إلى اسم الشّخص إهانة له. ومن هنا تستنتج الباحثة أنّ كلمة فلامنكو تعني حاملي السّكاكين وأنّها كانت تستخدم كإشارة مهينة إلى الغجر الذين طالما نظر إليهم بوصفهم فئة منبوذة وخارجة عن القانون داخل المجتمع الاسباني بسبب نمط عيشهم المتمرّد. ولئن كان ما يتردّد إلى اليوم من حكايات في إسبانيا عن اشتهار بعض الغجر الخارجين عن القانون بارتكاب جرائم باعتماد السّكاكين مثل "سيفيرينو غيمينس مالا"Ceferino Giménez Malla) ) من شأنه أن يدعم هذا الافتراض، إلاّ أنّ مراجعتنا قواميس اللّغة البروفانسيّة أثبتت خلوّها من أيّ أثر للفظ "فليكمي"، وهو ما دفعنا إلى مزيد تعميق البحث ليتبيّن لنا أنّ أصلها هو اللّغة الرّومانيّة (la langue romane) وأنّها كانت مستخدمة عند الشّعراء الجوّالين في جنوب فرنسا المعروفين باسم "التّروبادور" (troubadours)، حسب ما أشار إليه "فرانسوا جوست ماري" (Fronçois Juste-Marie) في القاموس الذي أعدّه حول الكلمات الرّومانيّة التي يستعملها التّروبادور والذي حمل عنوان "المعجم الرّوماني أو قاموس لغة التّروبادور" (Lexique roman ou dictionnaire de la langue troubadours) [01]. كما وجدنا أيضا أنّ كلمة "فليمي" تعني في اللّغة البروفانسيّة "المتّهم بالخروج عن القانون"، وهي تحمل هذا المعنى أيضا في اللغة الانكليزية الوسيطة [11].


أمّا الكلمة الوحيدة التي وجدناها قريبة لكلمة "فليمي" أو "فليكمي" وتحمل معنى سكّين أو سلاح محمول في اللّغة البروفانسيّة، فهي كلمة "فليم" (Flem)، وهذا ما يضعف الفرضيّة التي يطرحها الكاتبان المذكوران.


وتوجد عدّة بحوث وفرضيّات أخرى حول أصل الكلمة، لكنّنا وجدناها غير متعمّقة وغير جديرة بالاهتمام، لذلك اقتصرنا على طرح فرضيتّي الأصول العربيّة والغجريّة، لتبقى بذلك كلمة فلامنكو رمزا للنّضال ضدّ الإبادة الثقافيّة ومحاولات تغييب ومسح الهويّة القوميّة التي عانت ومازالت تعاني منها عديد الأقليّات في جميع أرجاء المعمورة.


3- الملامح العربية في موسيقى الفلامنكو:


لقد أشار كثير من الباحثين في مجال الموسيقى والإناسة الثّقافيّة، من المتخصّصين وغير المتخصّصين في دراسة الفلامنكو، إلى الطّابع الشّرقيّ الملحوظ في هذه الموسيقى، وإلى التّأثيرات العربيّة التي ساهمت بنسبة كبيرة في نشأتها وبروزها. ويعود هذا غالبا إلى ما بلغه العرب المسلمون من تطوّر ورقيّ في جميع الميادين خلال فترة حكمهم للأندلس. وإلى جانب الفلسفة والأدب والطبّ وعلوم الرّياضيّات والهندسة والكيمياء، كان العرب متقدمّين على الغرب في علم الموسيقى الذي توارثوه عن اليونانيّين وطوّروا فيه لكي تبلغ الموسيقى العربيّة قمّة الازدهار مع بروز الموشّح وموسيقى النّوبة وغيرها من الأنماط الموسيقيّة العربيّة. وقد تميّزت الأندلس في فترة الحكم العربي بمشهد ثقافيّ متميّز لقيت فيه الموسيقى والفنون بصفة عامّة تقديرا من قبل عامّة الشّعب والحكّام أيضا، خاصّة في العصرين المريني والسّعدي اللذين شهدا تدريس الموسيقى في المساجد، بوصفها علما لا يستقيم الاتّصاف بصفة عالم إلاّ بمعرفته، إن لم يكن الغوص فيه لارتباطه المتين بالفلسفة. كما شهدت الأندلس بروز عدّة معاهد موسيقيّة أسّس أوّلها على يد "زرياب"، لكي تنتشر في ما بعد في كلّ من غرناطة وطليطلة وأشبيليّة…. وقد كان لبروز الموشّحات والأزجال الأندلسيّة أثر كبير على موسيقى الفلامنكو، فكلاهما يعتمد تطبيق الإيقاع الغنائي على الإيقاع الشّعري أساسا. إضافة إلى أنّ أغاني الفلامنكو كانت تغنّى دون مرافقة أيّ آلة موسيقيّة وتريّة، بل بمرافقة آلة إيقاعيّة تتمثّل في قضيب يضرب على الأرض أو على جسم صلب لضبط ميزان الإيقاع. وكانت معظم مواضيعها تروي مغامرات عاطفيّة تعبّر عن المعاناة والعزلة أو تروي قصص الأبطال الموريسكيّين أو الغجر الذين وقفوا في وجه الكاثوليكيّين.


ويقترب الجوّ العامّ لموسيقى الفلامنكو من الجوّ العامّ للموسيقى العربيّة، فكلاهما يعتمد الارتجال على مستوى العزف إضافة إلى الارتباط الوثيق بالرّقص. كما أنّ توزيع الأدوار في فرق الفلامنكو يتمّ على غرار مثيله في الفرق الموسيقيّة العربيّة، أي حسب الجنس حيث لا يمكن أن تشغل المرأة إلا دور المغنّية أو الرّاقصة. وفي مقارنة قام بها "برنارد ليبلن" (Bernard Leblon) في كتابه "الغجر والفلامنكو" (Gypsies And Flamenco)[12] بين فرقة "باندا دي فيرديالس" (Panda De Verdiales) المتخصّصة في الفلكلور الإسباني لهضاب مالقة، وبين الفرق المغربية للفلكلور العربي الأندلسي، يستنتج الكاتب وجود تشابه كبير بينهما يتجسّد بالخصوص في استعمال نفس الآلات الموسيقيّة. فالفرق الاسبانيّة توظّف في موسيقاها آلة إيقاعيّة تسمى "أدف" (aduf) أو "باندرو" (Pandero)، وهي نفسها آلة "الدفّ" شائعة الاستخدام في الموسيقى العربيّة، أو ما يسمّى في منطقة المغرب العربي "البندير" (لاحظ تشابه الاسم في العربيّة والإسبانيّة)؛ إضافة إلى توظيف آلة العود، وآلة الكمنجة التي عوّضت الرّبابة )"رابل" Rabel بالاسبانيّة). كما نلاحظ لدى مغنّي الفلامنكو أسلوبا إنشاديّا مألوفا يقترب كثيرا من أسلوب الإنشاد العربي، فكلاهما يعتمد الغناء المتقطّع والملوّن بالارتفاع والانخفاض في الطّبقات الصّوتيّة، وهي نفس السّمات التي نجدها في أذان الجوامع، وهو الأسلوب الإنشادي الذي يسمّى في العرف الموسيقيّ بـ"الماليزما" (Melisma). ولعلّ ممّا يؤكّد أنّ هذا الأسلوب تمّ نقله إلى الفلامنكو عبر الموسيقى العربيّة هو اعتباره من قبل الباحثين "غيرهارد كيوبك" (Gerhard Kubik) و"سيلفيان آنا ديوف" (Sylviane Anna Diouf) أحد أهمّ التّأثيرات العربيّة في موسيقى البلوز. ويفسّر مؤرّخ الموسيقى المختصّ في تاريخ البلوز "صموئيل باركلي كارترز" (Samuel Barkley Charters) في كتابه "جذور البلوز" (The roots of the blues) [13] التقارب الذي لاحظه بين موسيقى البلوز والفلامنكو، بتلقّي هذين النّمطين من الموسيقى شحنة من التأثيرات العربية، وهو ما يعتبر الفرضيّة الأكثر تماسكا ومنطقيّة لتفسير التّقارب بين الفلامنكو والبلوز.


وقد ابتدع زرياب، مجدّد الموسيقى العربيّة في الأندلس، طريقة بيداغوجيّة لتلقين تلاميذه طريقته الخاصّة في الغناء، والتي كانت تقتضي حبس الأنفاس وإرجاع البطن إلى الوراء وفتح الفم كاملا عبر الضّغط على البطن بواسطة قضيب، مع اشتراط وضع التّلاميذ قطعة من الخشب بين أسنانهم أثناء النّوم. ويشير كلّ من "جون بول أوليف" (Jean-Paul Olive) و"سوزان كوغلر" (Suzanne Kogler) في كتابهما "الموسيقى والذّاكرة" (Musique et mémoire) [14] إلى تواصل استخدام هذه الطّريقة البيداغوجيّة التي أوجدها زرياب لتلقين المغنّين والعازفين أصول الفلامنكو وتقنيات عزفه وغنائه. كما يشير أيضا إلى أنّ الكلمات التي يصرخ بها مغنّي الفلامنكو مثل "أولي" (olé) و "يا-لي-لي-لا" (ya-li-li-la) والتي غالبا لا يقصد بإضافتها شيء معيّن غير الزّينة، ما هي في الحقيقة سوى الكلمتين العربيتان "يا الله" و"يا ليلي" اللتين يستخدمهما العرب في أغانيهم الارتجاليّة.


كما يشير مؤرخ الموسيقى "غونار ليندغرن" (Gunnar Lindgren) في مقال بعنوان "الجذور العربية لموسيقى البلوز والجاز" (The Arabic Roots Of Blues And Jazz) [15]، إلى التّشابه الكبير بين الإيقاعات العربيّة والأمريكيّة اللاّتينيّة؛ من حيث اعتماد كليهما أوزانا إيقاعية سريعة ومهارات عالية في العزف، وهو ما يعرف بـ"حركة النّمر"، وهو ما ينطبق شديد الانطباق على إيقاعات الفلامنكو التي كانت سببا في التّأثير على موسيقى لاتين القارّة الأمريكيّة، بفعل الاستعمار الإسباني والبرتغالي الذي امتدّ قرونا متوالية لتلك المناطق، والذي أدّى إلى فسخ الهوية الثقافية للعديد من الشعوب الأصلية لتلك المنطقة، مثل شعبي الإنكا والأزتك…. وكما ذكرنا من قبل فإنّ الآلات الإيقاعيّة التي توظّف من قبل كثير من فرق الفلكلور الاسباني هي ذات أصول عربية، مثل "الدفّ" (aduf) وهي ذات الآلة التي دخلت الموسيقى الأمريكية اللاتينية عن طريق الأسبان، أي عن طريق فنّ الفلامنكو ومازالت تستعمل إلى يومنا هذا [16]. فإذا عدنا إلى مسألة الرّقص، فإنّنا واجدون أوجه تقارب عديدة بين الرقص الشرقي ورقص الفلامنكو، فكلاهما يعتمد الارتجال بحيث تكون حركات الراقصين وليدة اللحظة لا معدّة سلفا مثل ما نجده في الرّقصات الأوروبيّة. فالرّاقص ينفعل مع الموسيقى ليدخل في حالة من النّشوة يصفها العرب بالطرب والأسبان بلفظ "Duende" كما تذكر "فيرجيني ريكولن" Virgini Recolin)) في كتابها "مدخل إلى الرّقص الشّرقي" [17]. وتلعب "الصّنجات" عند الرّاقصات الشّرقيّات نفس الدّور الذي يلعبه التّصفيق عند راقصات الفلامنكو، أي تحديد الميزان أو الإيقاع. أمّا بالنسبة لحركة النقر بالأرجل على الأرض في الفلامنكو والتي تعرف باسم "Zapateado"، فيشير الباحثان "جميلة هاني شبرا" و"كريستيان بوشي" (Christian Poché) في كتابهما "الرقص في العالم العربي: ميراث العوالم" [18]، إلى ظهور هذه الحركة في الأندلس على يد الراقصين العرب. ولإثبات الأصل العربيّ لهذه الحركة، يوظّف الكاتبان التحليل اللغوي الفيلولوجي طارحين فرضية أن تكون كلمة "Zapatear" الاسبانية التي اشتقّت منها كلمة "Zapateado" هي ذاتها كلمة "سبّاط" المستخدمة إلى اليوم في كثير من اللّهجات العاميّة في المغرب العربي كمرادف لكلمة "حذاء"، والتي نجدها أيضا في معجم اللغة الرومانية بمعنى "إصدار ضجيج". ويستند الكاتبان في طرحهما هذا على ارتداء الرّاقصين أحذية قاسية الأعقاب ينقرون بها الأرض عند الرّقص، ممّا يصدر ضجيجا يساهم في تغذية اللّحن. إلاّ أنّ كاتب هذه السّطور يطرح فرضيّة أخرى قد تكون أقرب إلى الواقع حول أصل كلمة "Zapateado"، وهي كلمة "ضبط" أي "ضبط الإيقاع" ومنه تسمية عازف الطّبلة أو الدّربكة باسم "ضابط الإيقاع"، وهنا نلاحظ انطباقا شبه مطلق بين الكلمتين في النّطق والدّلالة.


وأخيرا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا العمل لا يقصد إلاّ إعطاء لمحة عامّة عن تاريخ الفلامنكو وأهمّ التّأثيرات العربيّة التي ساهمت في ولادته وتطوّره، كما ذكرنا في المقدّمة، وأنّ البعض من عناصره يستحقّ أن يدرس بصفة أكثر دقّة وتوسّعا.








-جهاد بالحاج سالم.


0

الأربعاء، 10 أغسطس 2011

كشف سيناريو مسرحية هروب الطرابلسية




في هذا المقال سوف أقوم بتحليل ما جاء من أقاويل في الندوة الصحفية التي قام بها سمير الطرهوني وساحاول الوصول  إلى حقيقة ما حصل ليلة الإمساك بأفراد من عائلة الطرابلسية وهذا يفتح الباب أمام فهم ما حصل بصفة عامة في البلاد أثناء وبعد الثورة المجيدة.




رواية المقدم سمير طرهوني:
1_في رواية لوزارة الداخلية على لسان المقدم سمير الطرهوني رئيس فرقة مكافحة الإرهاب قالت بأنه تم إيقاف الطرابلسية في المطار وفق خيار فردي لمجموعة من فرقة مجابهة الإرهاب وعلى رأسها قائدها المقدم سمير طرهوني ولمن لم يشاهد الندوة فليشاهدها  (هنا)  و أثناء الندوة قال الطرهوني أنه إتخذ قرار الذهاب إلى المطار بعد تلقيه معلومة على جهاز التواصل بين أعوان الأمن وعند الإستفسار عنها عبر الإتصال بصديق له "حافظ العوني" ويعمل ضمن فرق تأمين الطائرات أجابه زميله بأنه لا توجد أعمال شغب بالمطار ولكنه قال له بأنه يوجد أفراد عائلة الطرابلسي وهم ينتطرون الطائرة عند إذن قال له الطرهوني أن يعرقلهم ريثما يأتي هو وزملائه حيث قال له بالحرف الواحد "عطلهم أنا جايين" ثم قام الطرهوني بالإتصال بزوجته ىالتي تعمل بالمطار وطلب منها كذلك أن توقف أي طائرة خاصة وتمنعها من الصعود ثم توجه الطرهوني رفقة 12 فردا من فرقته إلى المطار واقتحموه و أمسكوا بالطرابلسية وفي الأأثناء قاموا بإيجاد سرين بن علي ولكنهم لم يمسكوا بها ...



//// توجد في هذه الرواية  عديد الثغرات و عديد الأحداث المستحيلة الحدوث وعديد المغالطات .

1_ردع ومقاومة الشغب ليست من مشمولات فرقة مجابهة الإرهاب ومن له دراية بالأمور الأمنية يعرف ذلك و المقدم الطرهوني ليس له أي سبب للإستفسار عن حالات الشغب نظرا لأنها ليت من مشمولاته توجد فرق مقاومة الشغب وهي مختصة في هذا المجال.

2_صديق السيد الطرهوني "حافظ العوني" لا يستطيع تعطيل الطرابلسية عن السفر لأنه يأتمر بأوامر المسؤول عن المطار ولا يأتمر بأوامر السيد الطرهوني ولا يمكنه إتخاذ أي خطوة بدون أوامر مباشرة.

3_السيد اطرهوني قام بالخروج من ثكنة بوشوشة بدون إذن بمهمة وهو يجب أن يكون مكتوبا ويتلقاه من المسؤول عن الثكنة .والسيد الطرهوني لا يمكنه حتى أن يحصل على الرصاص بدون الإذن لأن الرصاص مخزن  في مكان أخر له المسؤولون عنه وكذلك بالنسبة للأسلحة وهي مسألة تنظيمية حيث يتم توزيع الأسلحة والرصاص بعد تسجيل رقم السلاح وعدد الرصاصات المقدمة لعون التنفيذ وكذلك بالنسبة للعربات لا تسلم إلا بعد الحصول على إذن بمهمة ويجب أن نضع في الحسبان أن بن علي ما يزال رئيس الجمهوورية حينها.

4_قام الطرهوني باقتحام مطار تونس قرطاج الدولي بمعية 12 فردا وهو أمر مستحيل حيث لا يسمح له بالدخول إلى المطار بدون الإستظهار بأمر بمهمة وكذلك يتم ذلك بالتنسيق مع محافظ أمن المطار وهو المسؤول الأول عن أمن المطار وله الحق بالدفاع عنه ويأتمر بأمره المئات إن لم نقل الألاف من رجال الأمن  العاملين بالمطار ولا أظن أن 12 أو حتى 100 رجل مسلح يمكنهم إقتحام المطار و لكن حسب رواية الطرهوني فقد قام باقناعهم بأنها كما قال "أوامر من الفوق" ولكن على أرض الواقع كلمة "أوامر من الفوق" لا تمكنه من دخول المطار وكما قلت الشيئ الوحيد الذي يمكنه من الدخول هو الإستظهار بوثيقة الإذن بمهمة ويجب كما قلت سابقا أن نضع في الحسبان أن بن علي ما يزال يدير مقاليد الحكم في ذلك الحين.

5_عندما قام المقدم بالتحدث مع المدعو "علي السرياطي " رئيس الأمن الرئاسي ثم قام بقطع الخط بوجهه .أولا لا يستطيع الطرهوني القيام بذلك لأنه وبكل بساطة في مقدور السرياطي أن يرسل أكثر من 1000 جندي للقضاء على الطرهوني وهو يعرف ذلك جيدا .

6_عندما وجد الطرهوني "سيرين بن علي" في المطار وعلى متن الطائرة لم يمسك بها رغم أن كل الناس تعرف أنها قامت رفقة زوجها بسرقة ونهب ثروات البلاد والعباد على أوسع نطاق وسنعود إلى الحديث عن هذه النقطة لاحقا لأنها ليست إعتباطية...
وهذا ولا يزال هنالك كم هائل من التساؤلات لا يمكننا طرحها كلها الأن ...




السيناريو المحتمل لأحداث القبض على أفراد من عائلة الطرابلسي :

ما لا يمكن الشك فيه أن الطرابلسية قد تم الإمساك بهم وكذلك على يد القوات الخاصة ولكن تمت العملية بسيناريو مختلف عن الرواية الرسمية وهو أنه تم إصدار أمر للمقدم سمير الطرهوني من قبل القيادة التي كانت موجودة في ذلك الوقت ومن  قبل"بن علي" شخصيا بالقبض على الطرابلسية في المطار حيث أن المخلوع قرر ولغاية إنقاض نفسة الإمساك بعائلة الطرابلسي ومحاسبتهم .


ومن الأشياء التي  تثبت ذلك هو هروب عائلة بن علي وعدم الإمساك بأي شخصية بارزة منهم. و شهادة الطرهوني خير دليل حيث قال  أنه وجد سيرين بن علي في المطار ولم يمسك بها ولكنه إكتفى بالإمساك بالطرابلسية بتعلة أنه لا دخل لها بالأمر والكل يدرك عكس ذلك ولكن...  . وحتى في فيديو القبض على الطرابلسية يمكن ملاحظة صورة بن علي وهي ما تزال معلقة داخل جدران 
الغرفة التي يجلس بها الموقوفين من الطرابلسية (ث51)







ولكن هذا يطرح السؤال حول الهدف من الكذب حول تفاصيل الرواية ولكن الإجابة سوف تأتي في الأيام القادمة وخصوصا في البرنامج التلفزيوني الذي سيبث على شاشة قناة نسمة وسيكون بطله المقدم سمير طرهوني حيث أنه سيروي بطولته كما أنه سوف يبرأ البوليس بقوله


أن العديد من القيادات في الأمن قررت الوقوف إلى جانب الشعب في الأيام الأخيرة من حكم المخلوع في محاولة يائسة للقيام بمصالحة بين الشعب والشرطة.
ولكن هيهات لن تكون هنالك مصالحة بدون محاسبة من خان  الشعب وسفك دمائه ضلما وبهتانا .
0

الحزب السياسي بين الوعي الولائي وأفق المواطنة











































عندما أتدبّر أمر أحزابنا" كلها" (ولا أستثني أحدا كما قال مظفّر النواب)، أجد نفسي مدفوعا إلى مقايسات وتشبيهات لا يحتاج المرء لفهمها الى زاد بلاغي أو معرفي كبير. أنطلق دائما من التساؤل"العفوي" التاليأمام "العطالة" أو القصور في مستوى المقاربات والأداء اللذين يحكمان الخطابات السياسية يمينا و يسارا و"وسطا"، وأمام غياب توحّد "إرادي" من طرف الفاعلين الاجتماعيين حول رمزية عليا أو أرضية ثقافية مشتركة ،هل يوجد اختلاف حقيقي في "الرمز"،أم هو صراع "ظاهري" لا يتجاوز مستوى الصراع حول"احتكار" نفس "الرمز "الثقافي الذي مازال حاضرا بصفاته دون اسمه ، بوعيه دون مفاهيمه، بروحانيته دون حاضنتها المؤسسية؟؟؟


وهنا أتقدم خطوة على درب المتاهة لأسألهل تغيّرت البنية العميقة لأحزابنا (حتى تلك التي تدّعي التقدمية او الحداثة الراديكالية) عن بنية "الزاوية" بلغة المغاربة و"الخانقاه" بلغة أهل المشرق؟ هل فعلا نحن في "زمن ثقافي" حداثي قد "تعلمنت" منظماته"المدنية" لتخلف "تنظيماته الأهلية" في الوساطة بين الفرد والدولة ؟ أحسب أنه لو أردنا معرفة الهرمية "التنظيمية" لأحزابنا "كلّها" فما علينا إلا ّ قراءة أي كتاب في مراتب "الولاية"- خاصّة في مرحلتها الطُّرقية- ،فأصحاب "المراتب الخفية" في أحزابنا السياسية (وهي المقابل المفهومي لـ"حكومة الظلالسلطوية) هم يشكّلون حقيقةً "عقلنا السياسي" ، ويهيمنون على تمظهراته المتحكمة في المجال العام. مازال الوليّ "المتأبّد" على عرش" طريقته"، هو "نهاية تاريخ" السياسي، و مازال "الوليّ المتسيّس" هو ما قبل تاريخ"السياسي" الذي لم ينبثق بعد

في ثقافتنا العربية الإسلامية ( فهل يختلف "الزعيم السياسي" المعارض الذي لم يترك "عرش المعارضة" في حزبه منذ عقد أو عقدين عن أي دكتاتور أو عن أي وليّ"صالح" قد يرى مريدوه في بعض مخاريقه و شطحاته ضربا من ضروب "المعرفة العليا" التي لا تصلح للعوام من أمثالهم ، وهل ننتظر ممّن لم يزهدوا في"كاريزما المعارضة" ورساميلها"الرمزية" أساسا، أن يزهدوا في "هيبة السلطان" و رساميلها المادية ؟). مازال المتحزّب عندنا يتعامل مع "شيخطريقته (زعيم حزبه) بمنطق التأويل"المطمئنّ"،ذاك الذي لخّصه أحد النحاة بقوله: "من توسّع في لغة العرب لم يكد يُلحّنْ فيها أحدا". وبالطبع فإنّ المريد لا يشغله عرب و لا عجم، بل كل همّه "تصحيح"كلام شيخه "السالك"في بداهات العقل و السلوك"النضالي" أو في يقينيات الايمان و "السلوك الشرعي".لم يكن بناء الدولة الوطنية إلاّ علمنة"ظاهريةلثالوث" الشيخ و المريد و الزاوية : فماذا كان "الزعيم الملهَم" و القائد الفذّ غير شيخ الطريقة الأعلى، و ماذا كان الحزب غير زاويته حيث تُخنزل رايات الطرق كلها في راية واحدة (علم البلاد)، ولكنها راية لا معنى لها إلا بربطها ب"صورة" القطب الأعظم المهيمنة على مجمل الفضاء"العام" ، حيث تسود قداسة لا يُدنّسها إلاّ انبثاق أي خطاب ينازع الزعيم" معارفه اللدنيةوسلطته الأبوية ، و هل كان "المواطن" شيئا يتجاوز في قيمته"الوظيفيةمستوى المريد الذي عليه أن يكون بين يدي شيخه( الزعيم) "كالميت بين يدي مغسّله"؟؟؟ كان بورقيبة هو المثال الأكثر صفاء للسلوك "الولائي" في صيغته العلمانية الكاذبة (لأنها لم تكن علمانية بقدر ما كانت ممارسة سلطانية تتجمّع فيها مناقب الوليّ و صفات الزعيم )، و كان بن علي هو مثال فقدان "الكاريزما" الولائية مع الإصرار على التمسّك بصفاتها التمييزية( ولعلّ في انتقال مركز الاهتمام لديه من الثقافي التأصيلي إلى الاقتصادي الوظيفي ما ينبئ عن تلك الأزمة)..ولم تستطع 14 جانفي أن تُخرج الوعي السياسي"المعارضمن المنطق الولائي إلى منطق "السياسي"، بل إننا لا نشهد أكثر من عملية تنافس شرسة بين زوايا و طرق تتحدّث كلها عن "المواطن" في حين أنها لا تعني غير "المريد.








أ.عادل بن عبدالله


0

الاثنين، 8 أغسطس 2011

الملك السعودي يرجم الأسد بالحجارة وينسى ان بيته من زجاج

































بث التلفزيون السعودي الاحد رسالة متلفزة للملك عبدالله  وجهها  إلى الشعب السوري  وقال فيها بأنه يجب على نظام الأسد  القيام باصلاحات فورية تستجيب إلى مطالب شعبه  وتحقن دمائه و طالبه   بوقف ألة القتل التي يوجهها بوجه شعبه.  كما قال 


 انه لدى النظام السوري خيارين لا ثالث لهما إما ان يتصرف بحكمة او ان تنجرف البلاد إلى الفوضى والضياع لا سمح الله. 


 وفي نفس السياق قامت السعودية باستدعاء سفيرها لدى دمشق للمشاورة  والتحدث حول الاوضاع في سوريا .





و سرعان ما جاء الرد السوري على   صفحات صحيفة "الوطن " السورية حيث قالت بأن الرسالة ااتي وجهها العاهل السعودي للشعب السوري هي رسالة امريكية بالاصل ولكنها جائت بلسان سعودي كما قالت نفس الصحيفة ان الملك السعودي تجاهل  ذكر المخطط الذي يستهدف سوريا والذي تنفذه عصابات ارهابية مسلحة تأتمر بأمر رجال دين متعصبين بعضهم يعيش في السعودية على حد قول الصحيفة .





وذهب بعض المدافعين عن سوريا إلى تسليط الضوء على الأوضاع السياسية والحريات في السعودية وقالوا بأن الأخيرة تنعدم فيها جميع أشكال الحريات كما أنه لا يوجد فيها أي حق لممارسة السياسة نظرا لبسط الملك سيطرته على الحياة السياسية التي تبقى محصورة في فئة معينة تتمثل في أقارب وحاشية الملك .











وجاء موقف السعودية هذا من الثورة السورية بعد أن سجلت سكوتها سابقا حول ثورتي تونس ومصر بل بالعكس فقد استفزت مشاعر الثوار التونسيين حين قامت بايواء الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ووصلت في معاداتها للثورة التونسية  إلى حد رفض تسليمه للسلطة التونسية لمحاسبته على ما ارتكبه من قتل وسرقات. كما استفزت الثوار المصريين بموقفها الداعم  لمبارك اثناء الثورة ولم تقف عند هذا الحد بل قامت ايضا بمعالجة وايواء الرئيس اليمني علي عبدالله صالح المرفوض بشدة من قبل شعبه  .













0

الخميس، 21 يوليو 2011

المشهد الثقافي التونسي: بين مطلب الاختلاف وازدواجيّة الخطاب







شهد المشهد الثقافيّ في بلادنا خلال الآونة الأخيرة جملة من الأحداث لم تقف عند حد الاعتداء على المخرج التونسيّ النوري بوزيد ولا اقتصرت على فتاوى التكفير والزندقة التي شملت عددا من المبدعين والمفكّرين مثل الشاعر منصف الوهايبي أو الأستاذة رجاء بن سلامة، بل تجاوزت ذلك إلى التخريب والتهشيم مثلما حدث في فضاء سينما "أفريكا"، في ظلّ واقع مأزوم صار الاستفزاز من أبرز سماته وأضحى تبادل التُهم واحتكار الحقائق من هذا الطرف أو ذاك علامتَه الواضحة. من هذا المنطلق سعينا إلى محاورة نخبة من الكتاب والمبدعين لاستقراء المشهد الثقافي بعد الثورة والإطلالة على مختلف المواقف والرؤى إزاء ما يحدث اليوم.
1- ألا ترون أنّ سياسة القمع التي كانت مكرسة طيلة عقود من الزمان ذُوبت فيها الفوارق وامّحت حدود الاختلاف، هي التي جعلت الصراع الثقافيّ اليوم قائما على احتكار الحقيقة وإقصاء المغاير؟
-      الكاتب محمّد الجابلّي (رابطة الكتاب الأحرار):


سياسة القمع لم تذوب الاختلاف، لأنه قائم بالضرورة لكنه مكبوت، سياسة القمع أرجأته في نفوس أصحابه وكلـّما طال الزمن تضخم في الذوات إلى حد القطيعة غير المعلنة، ثم إنّ الدكتاتورية تفرّخ دكتاتوريات، ذلك أنّ المبدأ المعروف لكل دكتاتور هو وهم مصادرة الحقيقة وامتلاكها والادعاء بأحقية الوصاية على البلاد والعباد وحسم شؤونهم الخفية والبيّنة، وهذه الظاهرة معروفة في علم النفس فمن يختزن القمع يستعيده حين تحين الفرصة...ومن الطبيعي نفسيا واجتماعيا أن نواجه الآن دكتاتوريات متعددة تتصارع على بدائل ممكنة للدكتاتور الأوحد لأنّ من نشأ في ظل الأحادية والقمع لا يمكن أن يكون ديمقراطيا بين عشية وضحاها...حين يرقى التنافس إلى الصراع عندها ندرك أننا نعاني إعاقة ليس من السهل تجاوزها لأن الديمقراطية هي عقلية تنشأ عن تضحية ومعايشة لم تتحققا في شرطنا ...

ومن أكبر مخاطر الدكتاتورية هي إرثها، أعني إفراغ العقول من كل تجاور وتحاور وشحنها وفق انضباطية الاصطفاف خلف قدر مرئي مفروض ومرفوض، وعند غياب ذلك الاصطفاف واختفاء الحدود ستسيطر أنانيات فردية تحت هاجس الزعامة أو القدرة عليها وفئوية وإيديولوجية بمعنى امتلاك الحقيقة...

ولقد وصفتم الصراع بأنه ثقافي من أجل امتلاك الحقيقة لكنه سياسي بامتياز، وهذا هو الفارق بين الثقافة ببعدها النقدي الشمولي القابل للاختلاف والسياسة ببعدها الفئوي الغارق في الحدود، بين شمولية بأفق إنساني ومحدودية بتطلع آني ونفعي.....

-      الأستاذ سامي براهم (جامعيّ مختصّ في الحضارة العربيّة الإسلاميّة)

الاستبداد السياسي يخرّب الثّقافة من خلال سياسة الاحتواء و التّدمير، الاحتواء بالإغراء يفرغ المبدع من الطّاقة على الإبداع الحرّ الذي يعبّر عن وجدانه و ضميره و ضمير مجتمعه و التّدمير يجهز على استعداداته الطبيعيّة و المكتسبة لمراكمة شروط التطوّر و التجدّد و التّمايز الخلاق مّا يؤثّر في ذات المبدع مثقفا كان أو فنانا في احترامه لنفسه و إبداعه و غيره ... كلّ ذلك يخلق كائنات مشوّهة مرتهنة إلى الوثوقيّات و الإقصاء و الصّراع المحموم و التّنافي فالكلّ يتربّص بالكلّ و الجميع مستلب إلى هويّة الذّات المهدّدة. لعلّ هذا ما يفسّر انفجار المكبوت الذّاتي الهووي نسبة إلى الهويّة " في غياب من كان يمسك بخيوط اللعبة و يشتغل على الموازنة بين الفاعلين حتى لا تخرج الحلقة المفرغة من سيطرته.
-      الدكتور محمّد حاج سالم (مختصّ في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا)
لسياسة الكبت الفكري دور بلا شكّ في احتقان المشهد الثقافي كما نعايشه راهنا، ولكن الحديث عن سياسة ثقافيّة في حدّ ذاتها دون وصلها بالسياسة العامّة للنّظام السابق مدعاة إلى حصر المسألة في بعد أحادي هو الصّراع على مواقع ثقافيّة، وهذا من شأنه النّظر إلى الثقافة وكأنّها بنية مستقلّة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة. وما أراه شخصيّا أنّ ما تصفونه بالصّراع على المواقع الثقافيّة لا يعدو سوى تعبيرة عن صراع اجتماعي اقتصادي بين فئات اجتماعيّة احتكرت المجال العمومي برمّته بما فيه المجال الثقافي حفاظا على مصالح طبقيّة لا فائدة في تفصيلها وفئات اجتماعيّة أخرى عانت التهميش والإقصاء من قبل المهيمنين اقتصاديّا وثقافيّا، ولعمري أنّ هذا هو الوجه الخفي للثورة التونسية، وهو وجه لم يبد لنا صفحته بعد إلاّ في لبوس ثقافي لا يعدم توظيفا سياسويّا في انتظار تجلّيه في قالب مطالب اجتماعيّة اقتصاديّة هي الآن بصدد التبلور.
-      الأستاذ البحري العرفاوي (شاعر وكاتب في جريدة الفجر)
bahri_arfawi1سنكون سعداء جدا لو كنا بصدد صراع ثقافي لما له من أثر إيجابي على البلاد وعلى الفكر والمعارف ولكننا للأسف بصدد تهريج ولغط وإثارة زوابع يمارسه نفر من الملحقين سياسيا وثقافيا أولئك العاجزون عن خوض الحوارات الجدية يلجأون إلى المناحات السياسية والعويل الإيديولوجي يشوشون ويشوهون ويحرضون على الفوضى ...مع الأسف نحن في تونس لسنا بصدد صراع ثقافي.
2- هناك من يعتبر الصراع الثقافي الذي تشهده تونس اليوم حقيقة ثابتةلا يمكن إغفالُها ولا تجاوزها طالما أننا إزاء أنموذجين ثقافيين أحدهما حداثيّ مبنيّ على مقولات الفرد وشعارُه "الشاذ لا يحفظ ولا يقاس عليه" والآخر قائم على ثقافةالجموع وهويّة الشعب ومقدساته وشعارُه "الشاذ يحفظ ولا يُقاس عليه". في ظلّ هذا الواقع ماهي الحلول الممكنة حتى لا يتحول الصراع إلى عنف؟
-       الأستاذ سامي براهم:
نحتاج للجواب على هذا السّؤال إلى دقّة تشخيص الوضع الثقافي في بلادنا و لذا نرى أنّ سبب الصّراع الثقافي لا يتعلّق حسب فهمنا بنموذجين يختلفان من حيث المرجعيّة و المفردات و الجهاز الرّمزي بل بارتهان عموم المثقفين لنفس الخلفيات الذّهنيّة و البناء النفسي الوجداني على اختلاف المرجعيات إذ لكلّ هويّة منغرسة في ثقافة جموع محليين أو خارجيين و لكلّ مقدّسات و وثوقيّات ودغمائيات ... نحن لا نعيش صراعا بين ممكن و مقدّس كما يشاع بل صراعا عنيفا مرشحا لمزيد من العنف الرّمزي و المادّي بين قداسات لكلّ قداسة مرجعيتها و مركزيّتها و نزوعها الكليانيّ التّمامي.

-الكاتب محمّد الجابلّي
أنا لا أرى صراعا ثقافيا، بقدر ما أرى فئات تتدافع على استحقاق سياسي لم تتأهل له، فلا ترى خلافا حول البرامج والرؤى لأنها مختزلة ومتناسخة بل ترى صراعا على الظهور وتحفزا دعائيا بأدوات قديمة ...
فهاجس الاستحقاق السياسي في غياب الجدل والمشاريع والاختلاف يأخذ منحى استفزازيا بين الأقطاب...ففي المستوى الثقافي العام هناك صراع لم نخضه وهو صراع فكري لا خطر فيه يدخل ضمن دائرة الاختلاف بمعنى الثراء بين الفئات والطبقات والتعبيرات الاجتماعية...جدل خلاق فيه تعدد وتثاقف ينحو منحى الإيجاب لكن عندما ينسحب الفكر وعندما يتزعم السياسي ريادة الشارع بمصالحه الآنية يتحول الجدل إلى صراع، ومن الصراع ما يتجه بالضرورة إلى العنف والإقصاء بحديه قصد التعبئة المغلوطة...تلك التي تغيّب جوهر القضايا في صالح سطحية تــَــرْكَبُ الإيديوجيا والدين لتبرير وجودها...
الجدل الفكرى عنوان ثراء وتعدد وهو من الثقافة لكن الصراع العنيف هو عنوان إفلاس وهو من السياسة...
كل الشعوب لها هوية وجذور ومقدسات، ويمكن لكل ذلك أن يكون في وئام نسبي مع ما يسمى بالحداثة إذا لم تتحرك يد السياسي لشحن الاختلاف ليكون تناقضا…وأنت ترى أن التعصب ليس حكرا على ديانة دون أخرى بل هو حكر على الفئات التي ترى وضعها مضطهدا فتركب موجة الدين أو المذهب لتبرر حراكها الواقعي…وتنزلق بفعل التعصب إلى امتلاك الحقيقة كوهم انفعالي يندمج مع وجودها اليومي…فكلما زاد التخلف زاد معه التعصب وكذا الظلم والإقصاء…
الحلول الممكنة تكمن في الثقافة التي تربي الأذهان على النسبية والاختلاف، وربما من أهم معضلاتنا أنّنا نغيب الثقافي ونهتف للسياسي، نغيب العقل ونركب الانفعال لأن العقل لا يمكن أن يحكم الواقع ما لم يصبح الواقع في حد ذاته معقولا بحسب المقولة الهيجلية، فأي واقع هذا الذي عاش بمقولة الحزب الواحد ثم تشظى في زمن قصير إلى أكثر من مائة حزب ؟
ما ننتظر من هذا الإسهال غير الغرق في اللاسياسي، بمعنى فقدان الثقة في التعبيرات السياسية بما هي ديناميكية ممكنات الفعل في الواقع؟ ألا ترى أن الانتهازية أو الصناديق المنتظرة وحّدت الخطاب بين اليمين واليسار فأصبح السياسي تاجر كلام يقول ما يريده الشارع لا ما يؤمن به فعلا؟؟؟
هل أن كثرة الأحزاب دليل صحة أم دليل مرض بهذا المعنى؟؟؟ أحزاب بلا مشاريع ثقافيّة أو هي تسير ضمن المبهم العام تتلمس سبيل الوجود في الزحام وتتغزل بالشارع ومنطقه المصلحي؟؟؟

-الدكتور محمّد حاج سالم:
أوّلا: ما من صراع إلاّ وهو عنف بالضرورة. ثانيا: لا أوافق على هذا التقسيم بين أنموذجين أحدهما حداثي يعتمد الفردانيّة والآخر تقليدي يعتمد الهويّة الجماعيّة، فهذه الرؤية المثنويّة من شأنها الفصل الحادّ بين مجتمعين تحت سقف وطن واحد، وهذا ما لا يراه إلاّ القائلون بالماهويّات الثقافيّة المجرّدة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة، فكم من عائلة يتعايش فيها المتديّن مع غير المتديّن، وكم من عائلة لا ترى في الاحتفاء بالحياة ما يتعارض مع ضوابط الدين والعرف. ما أراه شخصيّا أنّ الفردانيّة وإن بدت في الظاهر هي السائدة في سلوكياتنا اليوميّة وعلى مستوى بينة الأسرة النوويّة التي سادت، فإنّ العائلة الممتدّة هي السائدة على مستوى التصوّرات وهي تظهر في الملمّات والأزمات متجاوزة بنية العائلة النوويّة، وهذا أحد الأبعاد التي يتوّجب دراستها لفهم عدّة ظواهر تضغط بثقلها على الواقع الثقافي لبلادنا لعلّ أقربها إلى الأذهان ظواهر العروشيّة والأحزاب العائليّة والتكتلات الاقتصاديّة الجهويّة وما يتولّد عنها من صراعات تجد تعبيرتها القصوى على مستوى الثقافة ككلّ وعلى مستوى السياسة بشكل أخصّ.
3- هل ان انتماء الخطاب إلى حيز الفن باعتباره خطابا جماليا كفيل بإعفائه من أي حدّ وإن كان المقدس نفسه، أم انّ الحدّ جوهر الفنّ به يلوذ بالإيحاء ويحتمي من الوقوع في المباشر الفج؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
med_haj_salem2وهذا الرّأي أيضا يقود إلى النّظر إلى الفنّ وكأنّه بنية مستقلّة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة. فما من خطاب إلاّ وهو إنساني بالضرورة، وما من إنسان إلاّ ومنتم لجماعة عليه احترام الضوابط الناظمة لحسن اشتغالها، ومن هنا فما من خطاب إلاّ وهو تصعيد للمسألة الاجتماعيّة وهو مقبول ما لم يتصادم مع الضوابط الاجتماعيّة حتّى وإن كان في جوهره تجاوزا لمتطلبّات الواقع. فالخطاب الفني اختزال للواقع ضمن إرادة تجاوزه، وهو بهذا منفصل ومتّصل في آن مع واقعه، وهذا ما يضمن تبنّيه من قبل الجماعة المعبّر عن آمالها وآلامها وتطلّعاتها.

-الأستاذ سامي براهم:
الفنّ مثل أيّ نشاط بشري له علاقة بالتقبل، و المتقبلون أصناف و فئات و قطاعات و انتماءات ذات مواقع و مرجعيات متنوعة... و لا يمكن للفنّ باعتباره رسالة message أن يكون بمعزل عن التّأثير و التأثّر. و الأصل أن يكون الفنان معبّرا عن ضميره و عمق وجدانه و وعيه الذّاتي فلا رقابة عليه إلا من داخله. لكن الفنّ كذلك نشاط اجتماعي يوجّه رسائل و يضخ قيما و مضامين داخل المجتمع تتفاعل مع ذوق الناس و وعيهم و كلما حاول المبدع بذكائه العاطفي و الفني أن يوازن بين نبض ذاته التائقة للانعتاق من كل قيد و نبض المجموعة و انتظاراتها كلما كان أداؤه ناجحا و هي موازنة فنيّة لا تقوم على التوفيق و التلفيق و التّرميق bricolage و لا على التسويات المخلّة بجوهر العملية الإبداعية التي تتجلى فيها الذات في أعمق فرديّتها بل على المخاتلة الجماليّة الفنية من خلال تقنيات المجاز و التكنية و الانزياح و العدول و الإدهاش و الإرباك الفنّي و العصف الذّهني والخطاب الذي يخرج المتقبّل من حالة التّسليم الوثوقي الدّغمائي لمعتقداته إلى حالة القلق الوجودي و الحيرة الذّهنيّة التي تدفع للتأمّل و للتفكير و النقد و الحلم و إعادة بناء الذّات بعيدا عن المباشراتية الفجّة ذات النزعة الدّعويّة التبشيريّة الرّساليّة pastoral .
.و مع ذلك يمكن للفنان الذي اختار أن يستعمل الفنّ في المباشر اليومي ليقدّم بيانات manifestes ودروسا ونشاطا يخدم حزبا أو مجموعة ذات مصالح أن يحوّله إلى سلوك قابل للمساءلة القانونيّة و الرّقابة و المنع والاحتجاج و الرّفض و كلّ ذلك لا يستهدف الفني فيه لضعفه و ضموره وغلبة المباشر النفعي عليه بل لمضامينه التي تندرج ضمن ضوابط النشر والتوزيع و تسويق الخطاب السياسي .
-الكاتب محمّد الجابلّي:
الفن جوهره الحرية وكل فن هو حيرة واستباق وثورة على كل سائد مألوف، وكل تعبير فني أصيل هو مشروع ومغامرة في ذات صاحبها لحظة الخلق منها السؤال والتجاوز والثورة على الحدود …
وكل فن أصيل يرتبط بلحظة تاريخية وحضارية بكل أعماقها ويختزل منه زاوية النظر الأعمق للوجود والأشياء، وانتماؤه للحظة يجعله وفيا بشكل تلقائي لشروطها غير المعلنة وربما من تلك الشروط تكون الحدود الخفية والتي لا يدركها إلا الفنان الأصيل أعني بها الاندماج في الأعمق والأجمل إنسانيا… وهنا نخرج من فن إلى فن، أو نفرق بين فن سطحي يركب الإثارة وقد يصل إلى الاستفزاز وفن يقود المتلقي الى ما يريد بعمق وامتلاء …الفن يقتله الوضوح ومغامرة الفن الكبرى ترتبط بالجديد شكلا ومضمونا، ضمن أبعاد الإيحاء والتلميح والإشارة تلك التي تهز الأعماق وتوحد بين المختلف الإنساني لعمقها وثرائها، ولنا في أعمال خالدة خير مثال كرسالة الغفران والكوميديا الإلهية وحديثا الإخوة الأعداء…
الفن العميق لا يستفز السطح المختلف بقدر ما يستفز العمق الموحّد حول الإنسان والمصير والشرط الإنساني والمسؤولية بحدها الوجودي والوجداني…
4-هناك من يعتبر ما حدث في قاعة"أفريكا" لا يعود إلى الفلم أو إلى عنوانه وإن كان استفزازيا وإنما يعود إلى الإطار الذي عرض فيه وهو جمعية "لمّ الشمل" وهو اسم يوحي بالبحث عن المشترك بين المبدعين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم في حين يشير اسم التظاهرة "هز يديك على مبدعينا" إلى مسلّمة جاهزة سلفا وهي أن الإبداع مطوّق بأغلال ليست سوى الأسلاميين وعلينا تحريرُه من أسرهم. وفي الحالتين التظاهرة قائمة على مصادرة واتهام قبل العرض نفسه؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
لمّ شمل من ؟ شمل المبدعين ؟ ألا يوجد مبدعون بين الإسلاميّين ؟ ما يقلقني حقّا في شعار "هزّ يديك على مبدعينا" هو نون الجماعة المحيلة ضمنا على نزعة إقصائيّة تسيّج الآخر المختلف/المخالف خارج أسوار ذات متوهمّة، وهذا ما يكشف عنه الفيلم ذاته. فالفيلم أراد أن يكون وثائقيّا، لكنّه لم يقدّم سوى شهادات منتقاة أو لنقل شهادات منتمين إلى تلك "النّون" الإقصائيّة، وهي ما يوقعنا في أسْر لا يقلّ شراسة عن أسْر الأصوليّة الدينيّة، فهل مقدور علينا الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ؟

- الأستاذ سامي براهم:
sami_brahemجماعة لمّ الشّمل صرّحوا أنّهم غير معنيين بلمّ شمل جميع التّونسيين بل بلمّ شمل الدّيمقراطيين منهم دون الظلاميين و أعداء الحريّة. شمل قائم على الاصطفاف والفرز و الإقصاء القائم على أحكام مسبقة.
لقد اختارت مخرجة الفلم خطابا حربيا قبل عرض فلمها فحددت خصومها الذين تستهدفهم بفلمها و حكمت عليهم باستهدافها مسبقا و تقمصت دور الضحيّة بشكل فجّ مباشر خال من كلّ روح فنيّة و أعلنت أنّها ستخوض معهم المعركة الأخيرة معركة الحريّة من أجل الوجود المهدّد و هو خطاب كما وسمته صاحبته نفسها وقح culotté ينتمي للفلكلور السياسي لبعض من احترفوا استدرار عطف و أموال جمعيات و دوائر رسمية غربيّة و لو على حساب الحقيقة و كرامة مواطنيهم ..
لقد اختارت المخرجة أن تحرّف شعار لا إلاه لا سيّد ni dieu ni maître ــ و هو شعار فوضويّ لا يقصد منه مصادرة حقّ الناس في الإيمان بإلاله بقدر ما يعني عدم توظيف الإيمان بالإله لمصادرة حقّ النّاس و حريّتهم مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين في التفكير و التعبير ــ بشعار لا الله لا سيدي، مّا يعني استهدافها لتمثّل من تمثلات الإله و هو التمثّل الإسلامي على وجه الحصر دون غيره من التمثلات المسيحيّة أو اليهوديّة أو البوذيّة أو غيرها فحيّدت كلّ الآلهة من دائرة الرّفض من خلال الانزياح بصيغة التعميم الفوضويّة إلى صيغة التخصيص الإسلاميّة ممّا زاد في المباشراتية و أعطى لعنوان الفلم طابع الشعبويّة السياسيّة و التعرّي الايديولوجي hexhibition و لذلك انتهجت نهجا كفاحيا و تقمّصت دور الفنان الطليعي avant-gardiste أو الكاميكاز الثقافي لكن كلّ ذلك في مواجهة مواطنين لا ذنب لهم سوى أنّهم لم يتلقوا الحظّ الكافي من التثقيف و التكوين الذي يمكن من الحسّ النقدي و التربية على الحقوق و الحصانة النفسية و المعرفية بل و تركوا وحدهم يواجهون اختبار التدفق المعلوماتي و الانفجار الفضائي في غياب نخبتهم التي كانت تتنافس لترعى شؤونها مع عدم التوقّف عن التشهير بأبناء شعبها من أصحاب اللحى و الحجاب مستنصرة عليهم بسلطة الدّولة و مستغيثة بضمير العالم الحرّ و هو ما وقع غداة عرض الفلم من استصراخ من طرف ممثل لم الشمل في جلسة من جلسات مجلس الاتحاد الأروبي.
و هو ما يعكس حالة الانسحاب من الوطن و مشاغله.

-الدكتور شكري المبخوت: (أستاذ تعليم عال وباحث في اللغة العربية وآدابها):
choukri_mabkhoutلم يكن للمبدعين الحداثيّين دائما القدرة الكافية إبداعيّا والكفاءة العالية فنّيّا ليذهبوا إلى الآخر السميّ ويستضيفوه في فضاء أسئلتهم ويحتضنوه في قولهم وصورتهم وصوتهم.ولكنّ هذا لا يعدو أن يكون وجها من وجوه الضعف الإبداعيّ وليس بالضرورة موقفا عدائيّا من سميّ مختلف يعيش بينهم.ولا أذكر هنا الاستثناءات: معاداةً للآخر ونفيا له ،وقد يكون منه شريط نادية الفاني ،أو احتضانا له وتفهّما لجوهر مأزقه – مأزقنا. فبعيدا عن محاكمة النوايا والبحث عن المقاصد علينا مرّة أخرى مساءلة الإبداع الفنيّ نفسه.
    ولهذا تحدّثنا عن الحاجة إلى السلب الجذريّ أي العمل الفنيّ والثقافيّ الذي يربك النظام السائد ويزرع فيه بذرة الفوضى ضمن صيرورة نقديّة لا تتوقّف.ولا وجه لذلك إلا بالنقد المزدوج ،على حدّ تعبير عبد الكبير الخطيبي،حسب سياقنا العربي الإسلاميّ لمنظومات القيم والأفكار والتصوّرات الموروثة وفي الآن نفسه لمنظومات الثقافة المشهديّة ( على ما يحمل عليه غي ديبور الكلمة) والثقافة العولميّة الكاسحة.وهو نقد ضروريّ تاريخيّا وسياسيّا في تقديرنا ولا يمكن أن يكون بأسلحة سلفيّة بل بأسلحة من جنس ثقافة الاغتراب والاستيلاب نفسها بعد تحويلها وإعادة صياغتها وتنقيتها من زيفها وأكاذيبها واستراتيجيّة التلاعب بالعقول والوجدان التي تنبني عليها .
    وما شهدناه في سينما أفريكا آرت هو بوجه من الوجوه صرخة بدائيّة متوحّشة أمام نتاج لثقافة تبدو أعلق بالعصر وتقنياته ولكنّها ثقافة غريبة غربةً مركّبةً:في سياقها التقني المشهدي وفي سياقها الإيديولوجي السائد.لذلك نحتاج حقّا إلى نقد مزدوج للبؤس السلفيّ العاجز عن قول الآن وهنا إلاّ بلغة مستعارة من غياهب التاريخ وللبؤس الحداثيّ العاجز عن الذهاب إلى الإنسانيّ العميق لدى هؤلاء المقموعين المردّدين للقوالب المكرورة تكبيرا أو تكفيرا.

-الكاتب محمّد الجابلّي:
jbabliنعم هذا هو الأخطر في كل الموضوع، التوظيف المزدوج للفن، بين الاستبعاد والوصاية، وكلاهما من السياسة وليس من الثقافة…
لا أحد ينكر أنّ الفن المتحرر نشأ في أحضان الليبرالية وكان مدعوما بالفكر النقدي لليسار الذي كان يتمظهر من خلال الفن …أقول ذلك لأني أعتقد أنّ اليسار في تونس هو ظاهرة ثقافية وليس ظاهرة سياسية، بمعنى أنّ اليسار نشأ من خلال الفكر النقدي، ما جعله فاعلا في الوعي وعاجزا عن الفعل في الواقع، وهذا اليسار يسعى إلى التمظهر من خلال التعبيرات الفنية ويخلط بين النوعية والسطحية، ويدمج بين ماهو ليبرالي قد لا يلائم الواقع وبين ماهو فني حقا ضمن نقد الواقع والارتقاء بالمفاهيم…
ولعبة التداخل بين الليبرالي واليساري تدخل الفن ضمن لعبة الاستحقاق السياسي، ومن هذه اللعبة يدخل الطرف الآخر وأعني به "الإسلاميين" …لعبة ادعاء الوصاية على الفن والذوق والوعي يقابلها في الطرف الآخر ادعاء الوصاية على الواقع والأخلاق والقيم العامة…
ولا بد من التفريق بين الإسلام العقائدي الدعوي والإسلام الثقافي الحضاري المشترك والإسلام السياسي…وهذا الأخير هو الذي يتجاوز حده بحكم تفعيل أدوات صراع وتوظيفها لصالحه وهي ليست له بل تدخل ضمن المشترك العقائدي والثقافي ومن هنا نتحول من الثقافة إلى السياسة، ومن الجدل الى الصراع ومن الاختلاف إلى الاستفزاز ومن آليات الديمقراطية إلى أدوات الاستبداد…
لو كنا ضمن العقلية الديمقراطية لكان الأمر مختلفا، من ساءه الفيلم كان يمكن أن يحاربه بسبل أخرى عديدة كأن يعري ما فيه من سطحية أو كأن يقدم مذكرة قصد مقاضاته …
لكن يبدو أنّ هناك من له مصلحة في إثارة فتنة وهو بعيد عن الطرفين المتصارعين بل يوظفهما في توقيت معين لخدمة غايات قد يفضحها القادم من الأيام أو الشهور…
هناك أولويات عدة نتغافل عنها لنخوض صراعا آخر لا موقع له الآن، حوّلنا جدل الأيام الخوالي إلى الواقع بفعل الفراغ السياسي، جدل المقولات الكبرى في الدين والتاريخ والهوية والانتماء جدل الأفكار وهو جدل معروف في الجامعات لحظة احتداد الوعي وهو مشروع في منطق الفكر لكن دخوله للشارع أو إقحامه في الشارع هو من فعل السياسي بمخاتلاته الخفية…
5-إلى أي مدى يمكن اعتبار الصراع الثقافي السائد اليوم صراعا داخليا في ظل تلويح بعضهم بالتمويل الخارجي لأطراف في المشهد الثقافي في إطار عالمي يروم إعادة تشكيل الخارطة الثقافية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر للحد من فكر التطرف والمتطرفين؟

-الدكتور محمّد حاج سالم:
وجود تمويل خارجي لأطراف في المشهد الثقافي التونسي أمر لا يختلف فيه اثنان ، وإلاّ في أيّ إطار يمكننا وضع ما يسمّى بالتّعاون الثقافي وهو لا يمسّ كما يعلم القاصي والداني إلاّ أعمالا ومنشورات ذات لون إيديولوجي بعينه ؟ أظنّ أنّ الوقت قد حان لمراجعة سياسة التعاون الثقافي مع بعض الأطراف الخارجيّة منعا لـ"المال الثقافي" على غرار محاولات منع سبل تدفّق "المال السياسي" قطعا لأيّ تدخّل أجنبي في سياستنا الثقافيّة ( أو ثقافتنا السياسيّة، فهما في نهاية المطاف وجهان لعملة واحدة): فما دَاخَلَ المال أمرا إلاّ وأفسده !
-       الكاتب محمّد الجابلّي:
- أذكّر مرة ثانية باعتراضي على التوصيف فهو صراع سياسي بأدوات ثقافية، ففي تاريخنا العربي الإسلامي وفي فتراته المزهرة نجد تعايشا بين المذاهب والملل والنحل بل تعايشا بين الإيمان والإلحاد، فأهل السياسة ولأغراض متقاطعة يوظفون المشاعر العامة لخدمة غاياتهم وفي التاريخ لم يذبح الإبداع إلا عن طريق السياسة وليس عن طريق الاختلاف ويورد الطبري حوارا طريفا بين ملحد شهير وفقيه جليل نسوقه للاعتبار:
" اجتمع بن الراوندي مع أبي علي الجبائي يوما على جسر بغداد فقال له:
– يا أبا علي: ألا تسمع شيئا عن معارضتي للقرآن ونقضي له ؟
- فقال له : أنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك ولكن أحاكمك إلى نفسك فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلا وتلازما ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته ؟
- قال: لا والله
- قال الجبائي : قد كفيتني فانصرف حيث شئت " 
ومن هذا المثل أخلص للجواب على سؤالك ف الغرب يتدخل في شؤوننا بشكل فاضح وأهوج لا يدل عن عمق معرفة بالحاصل والعميق في حضارتنا، إنّه يدعي محاربة التطرف لكنه يصنعه ويعلبه عن قصد نفعي تارة وعن جهل تارة أخرى...وكل مظاهر التطرف نشأت في أحضان دكتاتوريات مدعومة من الغرب، في المستوى المحلي وبحروب ومظالم فجرها الغرب في المستوى العالمي...
وحرب التطرف في اعتقادي هي قضية داخلية تدخل ضمن استيعاب حضاري لمقتضيات الحداثة ضمن عقد تلقائي يرعى الخصوصية الثقافية والدينية والعرقية تلك الخصوصيات التي لا تمثل إعاقة في ظل عقلية الاختلاف بقدر ما تمثل ثراءً وعمقا...
أما الحاصل الآن فهو مدخول برياح شتى، ويجب أن نخرج أشياء كثيرة من هيمنة التدافع السياسي الآني وأن ننظر إليها من منظور الثقافي الأعمق والأكثر زمانية بمعنى الامتداد والشمول...










                          هذا الملف نشر في مجلة التلفزة التونسة
0

المتابعون